كي لا ننسى
الطين لحفظ الشرف
عائلة هادي صفي عزيز كردية فيلية من اصول السادة الموسوية مكونة من اب وام وتسعة اولاد وبنتان تسكن بغداد .شارع حيفا .
كانت اكبرهم بنتا ثم يأتي بعدهم اولاد .
يملك الاب مقهى تدر عليه ربح جيد يؤمن عيش العائلة بشكل مريح .
وجود تسعة اولاد شباب مصدر قلق للنظام البعثي خاصة عندما يرى الفتوة والرجولة ظاهرة عليهم وتميزهم بضخامة الجسم وقوة العضلاة والشجاعة وكان في مقدمتهم علي الابن الثالث الشرس الشجاع ويلقب علي الكرخي ، وكان مرعب رجال الامن ويسيء لحزب البعث بكلامه ويتحدى رجال الامن
في الشهر العاشر من عام ١٩٨١ اعتقل فاضل الذي كان يعمل بالمطار الدولي وكلما سألوا عنه دائرة الامن لم يعطوهم جواب وبعد عودة اخيه علي من العسكرية بإجازة وسمع بالخبر فتأثر كثيرا فقام بسب حزب البعث ومزق صورة صدام امام الناس
ووضعها تحت حذاءه متحديا حكومة البعثيين ، مما اثار غضب البعثيين وعلى اثرها تم اعتقاله
وثم اعتقال العائلة كلها في الشهر العاشر من عام ١٩٨١ وبعد يومين افرج عنهم الا فاضل وعلي ، وفي ١٩٨٢/٢/٥ اعتقلت العائلة مرة ثانية لمدة ٤٢ يوم ومن السجن تم تهجير العائلة عام ١٩٨٢ واحتجز الباقين وهم طالب وحسين وعقيل وسرمد عمره سبعة سنوات ولم يعتقل مسلم لانه كان خارج البيت وعمره ١٦ عام وكذلك اختفى اخيه الاكبر منه هاني .
وكانت البنت الكبرى ضمنهم التي صادف وجودها معهم في البيت لان الأم ذهبت للنجف لزيارة الامام علي ،ع،
وبقيت الاخت الصغرى في المدرسة بالصف الاول متوسط فعندما جاء رجال الامن يفتشون عنها في المدرسة اخبروها صديقاتها بالأمر فأنهزمت
حتى جاءت امها من الزيارة فسمعت بالخبر ورأت البيت مغلق وعلمت مكان بنتها فأخذتها معها الى النجف تتنقل بين البيوت والكل يتخوف من استقبالهم وأيوائهم .
وضعت العائلة في السجون الخاصة بالعوائل ، فتصدت الاخت الكبرى لتولي مهمة الام للعائلة ترعى اخوتها الصغار والاب مع ابنها الصغير رائد وعمره سنتان ونصف وعائلة اخيها فاضل وله ولد عمره ستة اشهر وبنت حديثة الولادة
وكان زوجها ابو رائد اعتقل ايضا ....
القى بهم رجال الامن على الحدود مقابل مدينة سربل ذهاب الايرانية عام ١٩٨٢ في الشتاء وكانت الاجواء ممطرة عاصفة وجبلية باردة وهم بملابس البيت وحفاة الاقدام
كان هناك ضابط بالاقامة اسمه عبود برتبة رائد اصلع قصير بطين يزجر ويهين المهجرين ويأمر افراد عصابته بتنفيذ الاوامر وتركهم بالعراء على الحدود ليذهبوا بإتجاه ايران ، فساروا بغير هدى في طريق يجهلون دروبه وكان عددهم ما يقرب الثلاثة آلاف نفر ..
كان هناك تنسيق بين رجال الامن العراقي مع القوات الكردية الايرانية المعارضة ففتحوا الماء في احد الانهر لنُمنع من العبور ، فجرف الماء الطفل الصغير ابن اخيهم المعتقل فاضل وعمره ستة اشهر حتى علا الصراخ لانقاذه بموقف مؤلم جمع بين الحنان والخوف لطفولته البريئة ولانه يمثل استمرار وجود ابيه معهم ، فتجمدت الام في مكانها لانها حامل ، فهب الجميع لنجدته وتم انقاذه بحمد الله لتعود الروح لامه وعمته ام رائد ليحضنوه في موقف بكائي حزين فعودته لهم تمثل عودة اخيهم فاضل .
نفذت خطة العصابات الايرانية هذه لحجزهم ومنعهم من العبور لسرقة الاموال التي معهم والحلي التي عليهم ليتم الاعتداء على شرف ٧ من النساء .
فانتشر الخبر بينهم ونادى الرجال على النساء همسا عليكم بالطين لتغطوا وجوهكم وملابسكم لستر اجسادكن واخفاء وجوهكن وابعاد اعين الشياطين عنكن لتحفظوا اعراضكم من اعتداء الاوغاد عديمي الشرف
فسارعت النساء مرتجفات لالقاء الطين على وجوههن وملابسهن لحفظ شرفهن وقد نسين آلام الهجرة وفراق الاهل والاولاد وبرودة الطقس ، لان الشرف اعز من كل شيء عندهم .
ساروا في الطريق والامطار تصب على رؤسهم واجسامهم مبللة لمد ثلاث ايام وكانت الارض مزروعة بالالغام وقد انفجرت البعض منها على العوائل وكان يسمع صوت انفجار وصراخ واستغاثة لمن اصيب منهم او قتل ، رغم ذلك لم يتوقف السير فالوضع لا يتحمل التأخر ولو ساعة ، وكانوا يختبئون ليلا في المغارات والكهوف التي لا تكفي للعدد الكبير واصوات صراخ الاطفال وعويل الامهات على ابناءهم وانين المرضى الذين اصابه البرد وجروح الالغام ، كانت الاصوات لها صدى راجع من تلك الجبال فتزيدهم رعبا ، وفي الفجر تمضي القافلة بمن حضر والموت يحصد بهم بين السقوط في الوديان لشدة التعب وانفجار الالغام ، فيتم دفن من يقدرون على دفنه في الطريق ويترك الاخرين ومن سقط في الوادي لتكون قبورهم في بطون الحيوانات المفترسة في الجبال ....
كانت صورة مرعبة مأساوية لا تنسى من الذاكرة .
انقسمت القافلة نصفين في المسير بلا وعي ولا دراية ولا اتفاق وكان العقل الجمعي هو من يتحكم بهم ، وكل قسم لا يعلم بمصير الاخر ، حتى التقيا معا في الحدود الايرانية ، لتستقبلهم القوات الايرانية وتقدم لهم المكان والاكل والاسعاف للمرضى...
آه انها رحلة قاسية جمعت بها ألم الفراق للوطن وموت الاحبة في الطريق وقساوة الطقس ووعورة الطريق وبعد مسافته ، هي احدى لوحات الظلم الذي لم يشهده التأريخ الانساني .
فقاموا بنقلهم الى مخيم للمهجرين في مدينة جهرم الايرانية ، وما ان وصلوا الى باب المخيم حتى استقبلوهم المهجرين السابقين بالبكاء والعويل مواسين ومتألمين لحالهم وسائلين عن ابناءهم الباقين في سجون العراق عسى ان يسمعوا خبرا مفرحا .
فأقاموا مجالس العزاء على من فقدوهم بالطريق وكل يسأل صاحبه عمن فقده من عائلته في الطريق ومن بقي في سجون حكومة حزب البعث .
وفي العراق اصدر النظام أمرا بجواز لقاء المحتجزين عنده في السجون لمن له اهل او اقارب واصدقاء وخصص لهم يوم بالشهر
فسارعت الام المتخفية لزيارة ابناءها فهم الباقين من العائلة الكبيرة التي كان يجمعهم بيت واحد يسوده المحبة والحنان مع اب وام حنونين وفجأتا تتلشي تلك العائلة بين مهجر وسجين ومطارد يتخفى في بيوت الناس ، احتظنتهم وافرغت همومها عندهم بالبكاء والانين تشمهم تقبلهم وهم يحيطون بها ولا يصدقون اعينهم واا يعرفون من اين يبدأون الحديث معها فالمصائب كبيرة والاحداث كثيرة ، فكان منهم من يقبل يدها واخر رجلها وكل يقول لها امي امي وكأنه طفل صغير والدموع تنهمر من اعينهم جميعا ، كان مشهدا تراجيديا حزينا غلفته السرية الخاصة ادعائهم انها خالتهم ، فهي تخشى ان يوشى بها وكانت المفاجئة لها ان وجدت ابنها الصغير مسلم معهم في السجن الذي عانقها ببكاء ونحيب اثار انتباه من حضر وقادها الشوق والحسرة على الاصغر منه سرمد ذو السبعة سنوات الذي فارقته ولا تعلم عنه شيء فكادت ان تصعق من شدة البكاء ، فانعقد لسانها واختفت الكلمات ولاتعرف الا اسماء ابنهائها ترددهم وصوت البكاء هو الغالب على الموقف ، ولوعتها انها لم تجد ابنائها الباقين فاضل وعلي وكانت تخشى السؤال والبحث عنهم خوفا من كشف امرها ، فأخذ البكاء وقتا كثير من مدة اللقاء المحدودة بدون كلام ، حتى سارعوا بالسؤال كل منهم الاخر على ما حل بهم وبأهلهم وتهامسوا عن اختباء هاني في بيت عمه ، كانت مواعيد اللقاء فرصة لاسترجاع الذكريات والاطمأنان كل منهم على الاخر ، كان الوقت يمضي سريعا حتى قطع السجان حديثهم وهو ينادي انتهى الوقت لينتزع كل منهم نفسه من اشتباك ارواحهم بدموع وشيء من فرح اللقاء .
في مخيم المهجرين بأيران سكن الاب مع بقية العائلة احدى الخيم وتولت اختهم الكبيرة دور الام لهم لتجمع ابنها الوحيد واخوتها الباقين عقيل وسرمد وكان عمره ٧ سنوات الذي كان كثر الحديث والسؤال عن امه والحنين والشوق لها ، فيختلي سرا ليجهش بالبكاء على امه التي فقد حنانها وكان لا يفارقها ويغفوا على تمتماتها ، فتدركه اخته فتصبره وتعطيه الامل برؤيتها .
فكانت الاخت الكبيرة تطوف عليهم رغم اللالم والحزن لتعطيهم الحنان ، تارة مع اطفال وزوجة اخيها فاضل السجين واخرى مع اخيها الصغير سرمد وابيها الذي بقي معه اثنان من اولاده من مجموع تسعة وزوجته وبنته الصغرى .
فكان بيت للاحزان يدوي صوت البكاء ليلا ولا يعلم من هو الباكي فجراحات الفراق آلمت الجميع ومواجع الهجرة أدمت قلوبهم ، ولم يبقى لهم الا الدعاء من الله بالصبر والفرج ، فكم مرة تُسكت الباكين لتُكابر ثم تنفجر بالبكاء على من بقي من عائلتها في العراق وعلى زوجها التي تجهل مصيره .
تعرف الاب على رجال المخيم من المهجرين ليوطن نفسه للفراق الصعب الطويل ، استصحبه الشباب معهم للعمل في المزارع الايرانية خارج المخيم ليعوضوه عن فقده ابناءه يسلونه يمازحونه حتى يشعروه كأنهم اولاده معه وكان يناديهم بأسماء اولاده لا بأسماءهم
فتسمع نداء فاضل علي مسلم حسين على الشباب الذين معه ......
ليوحي لنفسه انهم معه... فيختلي بنفسه بين الاشجار يبكي يغني ينعى حاله ثم يضحك ، والشباب لا يتركوه لوحده ...
وكل مرة يخرج يوزع الحلوى على اهل المخيم لانه راى في المنام ان حكم صدام قد سقط وسيعود لبلده ويلتقي ابناءه وهو فرح بتلك الرؤية وكأنها حقيقة ..
وكان اهل المدينة يحبونه فهو دمث الاخلاق حلو المعشر
محب للاخرين ..
يشارك في كل الاعراس ويلبس احسن ملابسه ويقول لهم هذا عرس ابني طالب او فاضل ..ويتفاعل مع العريس كأنه احد ابناءه ويدعوا الاخرين للحضور ويقول لهم هذا عرس ابني فلان .
استمر على هذا الحال الى ان توفي عام ١٩٩٤ في مخيم مدينة بل دختر الذي نقلوهم له ودفن هناك ودفنت معه الآمال والآلام وحسرة الفراق على نصف العائلة الاخر.
زادت المهمة على اختهم ام رائد بتولي شؤون العائلة لتكون الاب والام لاخوتها الذين بلغوا سن الشباب .
حصل تواصل بالرسائل بين ام رائد وامها في العراق عن طريق احد الايرانين الذي تعرفوا عليه بالصدفة لينقل رسائلهم عن طريق الكويت الى جارهم في بغداد وبالنفس الطريقة يعود الجواب .
ومنه علمت الاخت بظروف امها الصعبة وان ثلاث من اخوتها في السجن وهي تزورهم ولا تعلم عن الباقين ، انقطعت الرسائل لمدة سنتين ثم عادت بينهم وثم انقطعت .
سقط النظام البعثي عام ٢٠٠٣ عادت للعراق بدون ابيها الذي توفي ولكنها لم تجد اثرا لاخوتها الخمسة ، الا وثائق تثبت اعدام احدهم شنقا والاخر الموت بالمثرامة والثلاث الاخرون لا اثر لهم وقيل انزلهم النظام على الالغام وقيل جرب عليهم الاسلحة الكيمائية ....
وصدمت ان امها توفيت ...لكنها وجدت هاني المختفي .
كانت عودة مؤلمة مشابه لألم التهجير فهي في حيرة من امرها ماذا تعمل خمسة من اخوتها اعدمهم النظام وكذلك زوجها .
فقررت تزويج ابنها الذي اصبح شابا يافعا وكذلك اخيها
لكن المصائب ترفض ان تفارقها ، فقد توفي ابنها الوحيد
بعد وفاة زوجته بثلاث اشهر .
اخيها الذي نجى من اعدام صدام اغتالته يد الغدر الارهابي من صديقه الذي انتمى لتنظيم القاعدة لانه اعتبره شيعي كافر .
لم يبقى لام رائد الا الذكريات والايتام والامراض والحسرات ، وما ان حدثناها عن تلك الذكريات حتى اختنقت بالبكاء ومرضت ليومين ..
لقد دفعت عائلة هادي صفي ضريبة انتماءها الكردي الفيلي وانتماءها الشيعي الموالي لاهل البيت من نظام مجرم لا حقهم حتى بعد سقوط نظامه ليستل روح اخيها هاني ويبقى لها اثنان من الاخوة الصغير في العراق والاكبر منه في ايران ليعيشوا على ذكريات العائلة الكبيرة .
فسلام على الارواح البريئة واللعنة على ظالميهم من البعثيين الانجاس
لن تذهب دماء الشهداء ولا آهات المظلومين فهناك رجال اخوة لهم ستأخر الثأر ، وسيكبر الايتام ويعوضون ما فُقد منهم .
لم تجد قبر لاخوتها الخمس ولا قبر لزوجها ، لكنها وجدت عزما وثباتا في قلبها وصبرا على تحمل النوائب ،
واخوة اشداء لا ينامون على الضيم وان بعد الزمن .
وستجد يوم القيامة رحمة الله الواسعة للشهداء وشفاعة لهم تجمعهم مع اهلهم المظلومين.
جاسم الخيبري/2020/9//2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق