الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

دموع و ابتسامة / كي لا ننسى

كي لا ننسى 

دموع وابتسامه

تم تهجير ابي وامي حامل بي في الشهر السابع جئت الى الدنيا ولم اعي ما يدور حولي ومن انا ومن هو ابي الى ان وصلت السنة السادسة من العمر وبدأت ادرك ان هذا الشخص الذي سجلت بأسمه بأني بنته هو ليس ابي ، بعدما أسمعني الاطفال ممن حولي انه ليس ابوها .
ففاجئت امي يوما وقلت لها انا ليس لي اب ، كان سؤالي محرجا ومفاجأ لها ، فقالت لك اب ولكنه مسافر 
وسيعود ...
وبعدها ادركت مع الزمن ان هذا الشخص هو خالي اخ امي ...
عندما عرفت امي ان بدأت استوعب قامت تحدثني عن ابي وعمامي وما جرى علينا من تهجير لاننا اكراد فيلية 
وان الحكومة تطاردنا وتضايقنا وتعتبرنا اعداء للوطن ، ولكن كان ذلك على مراحل وبالتدريج وان سبب التسجيل باسم خالي خوفا ان يأخذوني منها ...
فتحول حديثي معها الى الهمس والحذر والخوف من كل محيطنا الا بيت خالي الذي احتضننا حتى لا يفشي سرنا بالمنطقة ....
كان وجودنا يمثل عبئنا ثقيلا على خالي للظروف المادية والامنية وكنا نستغل العطلة الصيفية لننتقل عند خالي الاخر في بغداد لنخفف من ثقل وجودنا على خالي الذي نقيم عنده .
بعد سنوات ورد لامي خبر وفاة ابي بحادث في ايران عام ١٩٨٦ كان الخبر قد وصلنا بالسماع بالطرق السرية ، وكان حادث الوفاة قد نزل على قلب امي كالصاعقة ، فهي بين حزن الفراق والخوف والحرص ان لا اصدم واتأثر من ذلك الخبر ، فزاد همها وحزنها .
فشعرت بالخوف اكثر لان الامل بلقاء والدي قد انقطع وان بنتها ستبقى بقية عمرها يتيمة حقيقية بعدما كانت هناك آمنية وامل ان نلتقي به يوما ما .
عندما بلغت العاشرة من عمري توفي خالي الذي كان بمثابة والدي وانا مسجله بأسمه كبنت له .
اصبح وضعنا صعب جدا في البيت لغياب من هو غطائنا وحامينا .
كنت اسمع في المدرسة اني ليس لي اب وعلمت المديرة ان ابي مهجر الى ايران وهذه تعتبر جريمة في نظام البعث لانهم يعتبرونها تغطية وتستر على مجرم وقد تجرها الى الاعدام ، لكن موقف المديرة الشجاع وتفهمها لحالنا ابعد عنا بعض الشبهات .
كانت هناك جارة لنا بعثية ومن الرفيقات تكتب عنا التقارير بأن هذه المرأة وبنتها من الاكراد الفيلية وزوجها مهجر ووجودها في العراق خطر على الحزب والثورة .
لكن الله سخر جارنا الاخر وهو رجل امن فأرشد امي بما تقول في دائرة الامن ولا تخاف عند الاستدعاء لها .
فأرسلت لنا الدائرة استدعاء فذهبت امي وهي خائفة وتدعوا الله بالخلاص من هذه المحنة ، لكن الله ادخل في قلبها الصلابة والشجاعة ، فقالت لهم انا لست متزوجة وهذه البنت هي بنت اخي والوثائق الرسمية تثبت ذلك .
فبقيت عندهم في السجن يومان واطلق سراحها فعادت للبيت فرحة منتصرة فأحتضنتني بقوة وشغف ، لانها كانت خائف عليّ جدا .
تركت المدرسة وانا في صف الثاني متوسط لعدم امتلاكنا المقدرة المالية ، فلا زمت البيت .
في عمر الاربعة عشر عام مرضت امي مرضا شديدا بسبب الكلى ، فتطلب الامر ان تدخل المستشفى ورقدت فيها خمسة اشهر في بغداد ، وكانت الاجور مكلفه لكن الله رحمنا بعد ان ارسل لنا عمامي من ايران بشكل سري عن طريق كردستان ٣٠٠ دولار امريكي لتغطي لنا تكاليف العلاج .
فلازمتها في المستشفى اتولى امرها من استبدال جهاز غسل الكل وغيرها وابقى واقفة لساعات طويلة ، ولكن امي كان يؤذيها حالي وتطلب مني الراحة .
لم يهمني التعب بقدر ماكنت اتأمل شفائها 
وافرح لابتسامتها لي لتعود لي للبيت فليس لي احد في الحياة غيرها .
زاد مرضها ونحل جسدها وانا معها وعيونها لم تتوقف عن ذرف الدموع وهي تلاحقني في نظراتها وتشفق على تعبي معها ، لسانها لم يتوقف عن قراءة القرآن الذي كانت تحفظه .
حتى وصلت الى ساعات النزع الاخير وعيونها تفيض بالدموع وتوصي اخوتها وابنائهم بمدارتي وحمايتي ، وتوصيني ان اكون صلبة وقوية وقالت لي حظك غير سعيد ، واخافني انها تبتسم وتنظر الى سقف الغرفة وتقول لي هذا ابوك وهذه عمتك فلانه ( هي متوفية ) الا ترينهم وتقول لي يؤشرون لي ان اذهب معهم ، وكانت تقول بصوت مسموع كيف اذهب وابقي بنتي ثم تبكي وتنظر لي ، فقضت وقتا قليلا بين الابتسامة والدموع وانا خائفة ان تذهب امي مع والدي واخته المتوفين وتتركني وحيدة في هذه الدنيا ، فبردت اطرافها السفلى واصبحت بلا حراك ثم صعد التوقف الى اعلى جسمها وهي لم تفارق نظراتها لي مع الدموع ، حتى جاء خالي وغطى وجهها قبل ان تغلق عينها وتبعد نظرها عني ، حتى ابعدني خالي بالقوة وانا اصرخ امي امي لاسمعها صوتيا لتحتظنني واعيش معها ولو للحظات ، ولم اتوقف عن البكاء والصراخ .
لقد انتزعت امي مني ، لكاذا لم تبقى معي ياإلاهي ، كيف سبقى بالحياة بدونها فهي امي وابي وكل حياتي ، فلُمت خالي لانه ابعدني بقسوة عنها وكنت اريد ان ابقى انظر لها واحتظنها واشمها ، انها روحي وحياتي وكل شيء بالنسبة لي .
فحينها اسودت الدنيا بوجهي فحرمت من الاب والام ، ومن السند والحامي لي لاكون كالريشة في الهواء تتقاذفني الرياح كيفما تشاء 
وعدت الى بيت خالي منكسرة بائسة ، ابكي بصمت واعيد ذكريات امي وكلماتها وكل شيء فيها ، كنت اعاتبها بقلب محروق لانها تركتني وذهبت ياليتها اخذتني معها لالتقي بأبي ونعيش معا هناك في الدار الاخرى .
كانت ظروفنا المادية صعبة جدا ، فأضطررت ان اخبز للناس وان احوك الليف وان اعمل بعض الاكلات لتباع في السوق وانا بعمر صغير ، لا اعرف الراحة والنوم فكان همي ان اجد مصدر رزق لي ولا امد يدي لاحد.

اشتريت بعض الالبسة بالمال الذي اجنيه من عملي لارتب حالي امام صديقاتي ولا اظهر الانكسار امامهن وكن يلبسن ملابس جميلة في الاعياد وانا انظر بخجل لاني لا املك مثلهن ...
سقط النظام البعثي وعاد اعمامي وعوضوا لي جزء كبير من الحنان ، وجاءت القسمة وتزوجت لم اسعد بزواجي كما قالت لي امي قبل موتها لان زوجي كان مرض وعشت معه اربع سنوات ثم توفى، قضيت نصفها ادارية وهو في الفراش ولا يتمكن من الحركة رزقني الله منه ثلاث اطفال لتدور قضية اليُتم معي ...
هكذا انقضى عمري بين الاحلام وبين الخوف والرعب
ولم افهم منه شيء .
انها حياة صعبة وأليمه لا اتمناها لاحد ، لم ارتكب ذنبا ولا اهلي ولم يكونوا معارضي النظام وسياسته .
كان ذنبنا ان الله خلقنا من قومية ثانية ومذهبنا الحب لآل البيت ، وهما خطر في قاموس حزب البعث فانتقم منا واجرم بحقنا .
وكان جزائهم في الدنيا سقوط حكمهم والخوف والتشريد والذل ، والخسران يوم القيامة ..

 
2020/8/28

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق