________________
عصور الشيعة الستة
________________
علي المؤمن
مر النظام الاجتماعي الديني الشيعي، منذ نشوئه في العام الحادي عشر الهجري (632 م)، بمراحل تاريخية كثيرة ومتنوعة في عناوينها ومضامينها، شهدت صعوداً ونزولاً، وانفراجات وانسدادات. ويمكن حصر هذه المراحل بستة عصور أساسية، لكل منها مؤسس وقائد تاريخي، مثّل ظهوره بداية عصر جديد من الصعود والانتشار والتألق العلمي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ويعقبه أفول تدريجي، وصولاً الى حالة الانكفاء والتهميش المعتادة، حتى يظهر قائد جديد بعد فترة زمنية ليؤسس عصراً شيعياً جديداً. وقد بدأ تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي بعصر الإمام علي، وهو العصر الأول الذي شهد التأسيس، ويعيش اليوم عصر الإمام الخميني، وهو العصر الشيعي السادس.
ومايعنينا في هذه العصور هو البعد الواقعي الحسي، وليس المعنوي والروحي، وليس شخصيات المؤسسين ومستويات قدسيتهم ومقاماتهم الدينية والعلمية؛ بل أدوارهم الواقعية التي مثلت بداية عصر جديد، ومنعطفاً تاريخياً. أي أن هذه العصور ليست عصوراً علمية أو فقهية أو سياسية؛ بل عصور شاملة لصعود النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتحكيمه وقوته:
1- العصر الأول: عصر الإمام علي بن أبي طالب في المدينة والكوفة:
وهو العصر الذي أسسه وقاده الإمام علي، ومثّل قاعدة نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وكما ذكرنا في بحث سابق فإن الحدث المفصلي الذي أدى تلقائياً الى ولادة هذا العصر هو إبعاد الإمام علي عن استحقاقه الشرعي في رئاسة الدولة الإسلامية وإمامة الأمة عملياً. واستمر هذا العصر (112) عاماً، أي منذ يوم السقيفة في العام 11 للهجرة (632 ه)، وحتى تبلور حراك الإمام جعفر الصادق. وشهد هذا العصر تبلور واقع النظام الاجتماعي الديني الشيعي تدريجياً خلال حكومات الخلفاء الراشدين الثلاثة، ثم رئاسة الإمام علي والإمام الحسن للدولة الإسلامية، وإسقاط حكومة الإمام الحسن، ثم إمامة الحسين بن علي وواقعة كربلاء، وإمامة علي السجاد ومحمد الباقر والمرحلة الأولى من إمامة جعفر الصادق وثورة زيد بن علي وحراكات العلويين الأخرى ضد السلطة الأموية.
2- العصر الثاني: عصر الإمام جعفر الصادق في المدينة والكوفة:
بدأ العصر الثاني على يد مؤسسه الإمام جعفر بن محمد الصادق، في العام 132 ه (750 م)، إثر سقوط مدينة الكوفة بيد الحركة العباسية، وبدايات انهيار السلطة الأموية، وهي المرحلة الثانية من فترة إمامة الصادق. وقد شهد هذا العصر تبلور المدرسة الفقهية الشيعية في ظل الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تمتع بها الشيعة، والتي ساعدت على تحكيم قوة نظامهم الاجتماعي الديني بصورة كبيرة. كما شهدت ظهور الفرق الكلامية والمذاهب السنية الفقهية التي تخلّصت الى حد كيير من سطوة الدين الأموي واجتماعه السياسي الموروث، وبدت قريبة من المذهب الشيعي وإمامه الصادق، وغير متضادة معهما. وعاد الواقع الشيعي الى عصر التراجع بعد تشديد السلطة العباسية قبضتها على الشيعة. وشهد هذا العصر إمامة موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد المهدي المنتظر، وانتهى بغيبة الإمام المهدي وظهور زعامة نائبه الخاص الأول الشيخ عثمان بن سعيد العمري في العام 260 ه (876 م)، أي أن العصر الثاني استمر (128) عاماً تقريباً.
3- العصر الثالث: عصر الشيخ عثمان بن سعيد العمري في بغداد:
مؤسس هذا العصر وقائده هو الزعيم الشيعي عثمان العمري الأسدي، المعروف بالسفير الأول والنائب الخاص الأول للإمام محمد بن الحسن المهدي، وهو الذي أسس لواقع النيابة الخاصة للإمام بتشريع من الإمام نفسه، بعد بدء غيبته في العام 260 ه (876م). ويمكن القول بأن الإمام علي بن ابي طالب هو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الإمامة، وأن الشيخ العمري مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة. وقد شهد هذا العصر توالي ثلاثة سفراء على خلافة الشيخ العمري، ثم بداية الغيبة الكبرى، وتأسيس الحوزة العلمية في قم، وظهور مجموعة المحدثين والفقهاء المؤسسين، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والمرحلة الأولى من زعامة الشيخ الطوسي. كما شهد هذا العصر ظهور الدولة البويهية الشيعية التي شكلت الحماية السياسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في العراق وايران، وكذلك مرحلة قوة الدولة الإدريسية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس، والدولة الحمدانية الشيعية في شمال العراق وأغلب بلاد الشام، والدولة الفاطمية الشيعية في مصر، والدولة العلوية الشيعية في طبرستان ايران. واستمر هذه العصر (188) عاماً، أي أنه استمر حتى تأسيس الحوزة العلمية في النجف الاشرف في العام 448 ه (1038م)، وهو يمثل أحد العصور الذهبية للشيعة؛ إذ تخلله سيطرة الحكومات الشيعية على أغلب العالم الإسلامي، لكنه انهار انهياراً مدوياً على يد صلاح الدين الأيوبي، وطغرل السلجوقي، وبقايا الأمويين في شمال أفريقيا.
4- العصر الرابع: عصر الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في النجف:
بدأ هذا العصر مع هجرة زعيم الشيعة ومرجعهم الديني الشيخ الطوسي من بغداد الى النجف الأشرف وتأسيس حوزته العلمية في العام 448 ه (1038م). وتميز بالتألق العلمي الكبير للمذهب الشيعي، واستحكام الدعائم الفكرية والعملية للنظام الديني الاجتماعي الشيعي وهيكليته وامتداداته في الجوار الإقليمي. ويمكن القول أن الشيخ الطوسي أول من أسس للمركزية في النظام الديني الاجتماعي الشيعي، كما كان في عصر الأئمة الإثني عشر؛ فبات الزعيم الديني يشرف على الواقع الشيعي في أغلب البلدان بشكل مركزي، انطلاقاً من النجف. وبالتالي؛ فالنجف لم تكن مجرد حوزة علمية أو حاضرة دينية؛ بل تحولت ولأول مرة الى عاصمة للنظام الديني الاجتماعي الشيعي، كونها مدينة شيعية خالصة، وهو مالم يكن متحققاً في بغداد، العاصمة السياسية والمدينة المختلطة. ولم يشهد هذا العصر ظهور دول شيعية قوية؛ بل بعض الإمارات الصغيرة في العراق وايران وتركيا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها، والتي ظلت تعاني من موجات الغزو الطائفي من السلطات المركزية العباسية ثم العثمانية أو الإمارات السنية المجاورة. وقد استمر هذا العصر مايقرب من (459) سنة، أي حتى ظهور الدولة الصفوية في العام 907 ه (1501م) على يد الشاه اسماعيل الصفوي.
5- العصر الخامس: عصر السيد اسماعيل الصفوي الموسوي في تبريز وإصفهان:
بدأ هذا العصر على يد السيد اسماعيل بن حيدر الصفوي، وهو عميد السادة الصفويين في زمانه، وهم أسرة علوية مهاجرة من أصول عراقية ينتهي نسبها الى الإمام موسى الكاظم. واتخذ السيد اسماعيل الصفوي لقب الشاه اسماعيل بعد أن أسس الدولة الشيعية الصفوية انطلاقاً من مدينة تبريز في العام 907 ه (1501م)، ثم انتقلت عاصمتها الى إصفهان. وهي أول دولة شيعية اقليمية منذ انهيار الدولة الفاطمية قبل ذلك بثلاثة قرون ونصف، كان خلالها الشيعة يعيشون حالات من التهميش والاضطهاد، فجاءت الدولة الصفوية لتقلب المعادلة الطائفية في المنطقة الإسلامية رأساً على عقب، وتنهي احتكار الدولة العثمانية السنية لحكم العالم الإسلامي. وكان البناء المذهبي للدولة الصفوية يقوم على جهود الفقهاء العرب العراقيين واللبنانيين والبحرانيين، الذين كانوا أئمة الدولة وقضاتها ومبلغيها. ولذلك فإن المنظومة العقدية والفقهية التي حكمت الدولة الصفوية انتجها علماء دين عرب، وليس فرس أو آذربيجانيين. وقد شهد هذا العصر تطوراً شاملاً في الواقع الشيعي المحلي والدولي، وبات الشيعة يحكمون أغلب مناطق غرب آسيا وشرقها، بدءاً بايران وافغانستان وأجزاء من شبه القارة الهندية وانتهاء بالعراق وأجزاء من القوقاز والمناطق الخليجية. وشكلت الدولة الصفوية حماية أساسية للشيعة العرب بوجه المجارز التي كانوا يتعرضون لها على يد العثمانيين. وبات هناك تداخل كبير بين النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الديني الشيعي. كما شهد هذا العصر نهضة علمية وفقهية كبيرة جرت أغلب فصولها في النجف وإصفهان. واستمر الصعود الشيعي السياسي والثقافي والاجتماعي مدة (262) سنة، أي حتى انهيار الدولة الصفوية في العام 1763م. وأعقب سقوطها انهيارات متوالية في الواقع الشيعي، وتعرض النظام الاجتماعي الديني الشيعي الى ضربات منظمة قاسية من الدولة التركية العثمانية، وكان أبشعها المجازر التي ظل يتعرض لها شيعة لبنان والعراق. وقد استمرت الانهيارات مدة ( 216) عاماً متواصلة، أي حتى ظهور دولة الإمام الخميني في إيران في العام 1979م. صحيح أن القرن الأخير تخللته صحوات محدودة وثورات محلية ومشاريع ستراتيجية شيعية في العراق ولبنان وايران وباكستان وغيرها، إلّا أنها لم ترق الى التأسيس لعصر شيعي جديد.
6- العصر السادس: عصر السيد روح الله الموسوي الخميني في قم وطهران:
شكّل نجاح ثورة الإمام روح الله بن مصطفى الموسوي الخميني وتأسيس الدولة الإسلامية الشيعية في ايران في العام 1979م؛ بداية عصر جديد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهو ثاني مرجع ديني يؤسس لعصر شيعي بعد الشيخ الطوسي، وثاني سيد موسوي يؤسس لعصر شيعي بعد السيد اسماعيل الصفوي. وتختلف الدولة التي أسسها الإمام الخميني اختلافاً جذرياً عن الدول الشيعية التاريخية التي سبقتها؛ لأن جميع تلك الدول كانت دولاً سلطانية وراثية متشبهة بالدول السلطانية السنية، ولم يتأسس نظامها السياسي على نظرية فقهية. أي أن الجمهورية الإسلامية في ايران هي أول دولة شيعية عقدية في عصر الغيبة تستند الى مبدأ فقهي تأصيلي هو مبدأ ولاية الفقيه، وأول حكومة إسلامية عقدية إمامية بعد حكومة الإمام الحسن بن علي. وترافقت مسيرة هذه الدولة مع نهوض شيعي شامل، ديني وعلمي وسياسي واجتماعي ودولي، منح للنظام الاجتماعي الديني الشيعي حمايةً وقوة وتمدداً غير مسبوق منذ انهيار الدولة الصفوية، ليس على مستوى ايران وحسب؛ بل على مستوى جميع الدول التي تضم امتدادات للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ولاسيماالعراق ولبنان واذربيجان وافغانستان واليمن ولبنان وسوريا، وهي البلدان التي شهدت التحولات الشيعية الأبرز خلال العقود الأربعة من عمر العصر الشيعي السادس. وقد قلبت هذا التحولات الطاولة على النظم الطائفية التي ظلت تمارس أقسى ألوان التمييز والاضطهاد والقمع ضد الشيعة. ولذلك لم تتعرض أي دولة شيعية للغزو الطائفي بهذه الشدة والشمولية والكثافة كما تعرضت له جمهورية الإمام الخميني، في إطار محاولات نوعية إقليمية ودولية لإسقاط العصر الشيعي السادس.
٢٣ / ٧/ ٢٠٢٠
________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق