كي لا ننسى
حوارات أُمي
في الشهر الرابع من عام ١٩٨٠ حدثت جريمه وحشية من قبل النظام البعثي الحاكم في العراق بتهجير آلاف من العراقيين تحت ذريعة التبعية الايرانية وكان اغلبهم من الاكراد الفيلية
كانت من ظمنهم عائلتي التي تكونت من اب وام واربعة اولاد وبنتان وكنت اصغرهم وكان اخوتي الذكور هم اكبر العائلة محمد وعلي وحسنين
وانا باقر الاصغر للعائلة وعمري سبعة سنوات واخي الاكبر محمد عمره ٢٥ عام مهندس تخرج قبل سنوات قليلة، والاخوين الاخرين طلبة جامعه والاختان في الاعدادية ، ولم يتزوج احد منهم ، فكانت امي تعد العدة لزواج اخي الكبير .
داهم النظام البعثي بيتنا وساقنا الى مراكز تجمع للعديد من العوائل واخذوا اخوتي الثلاث الى اماكن لا نعلمها وقد جردنا من اموالنا واملاكنا واخرجنا بالملابس التي علينا ، حتى لم يسمحوا لوالدي بجلب المال الذي عنده بالبيت والتي في محله التجاري ، وبقيت الكثير من الاموال موزعة عند عملائه عن قيمة متاجراتهم معه .
وثم اخذونا الى الحدود الايرانية لنواجه المسير الى ايران بدون اخوتي الثلاث ، رغم قساوة الواقعة لكن امي وابي يعيشون في عالم اخر يسألون عن مصير الشباب ، ورجال الامن لا يعطون جواب .
استقر بنا الحال في احدى مدن ايران في ظروف صعبة وعالم اخر من الغربة ، دارت الايام والسنون ونحن على ذلك الحال لا نعلم شيئا عن مصير اخوتي .
ولتقدمي بالعمر اصبحت اكثر ادراكا من السابق لما جرى علينا والعمر يأخذ بامي وابي .
في كل ليلة اسمع حوارات امي تنادي بأسماء اخوتي وتحدثهم عن الوضع وتسألهم ، وكنت اراقب واختلس النظر لها وانصت لكلامها ، فتأخذني الرعدة واسأل نفسي هل ان اخوتي معنا في البيت ام هو خيال امي ، اذن هي من تحاور ولماذا تفرج اصابعها لتمرره على مكان من الملابس وكأنها تعبث بشعرهم ، ووجدتها تبتسم واحيانا تقهقه ، فراودني الشعور انها قد جُنت ، امعنت النظر كثيرا فلم اجد شيئا غير اكوام ملابس جمعتها وقسمتها على الاسماء تمهيدا للقاءهم والاعداد لزواجهم .
تُحدثهم عما اختارت لهم من النساء لتأخذ رأيهم بهن وكأن اخوتي يحدثونها وهي تناديهم بأسمائهم ، ثم تبكي حتى يغلبها النعاس فتنام قرب الملابس وكأنها باتت ليلتها قربهم ، وفي الصباح تعود لحالها وليس بها جنون ، تخطط تشترى ملابس لعرسهم وترسم في مخيلتها اطوالهم واذواقهم ومن ستكون من البنات زوجة لكل منهم .
حاولت ان ابعد عنها هذه الخيالات لكن دون جدوى ، فأستعنت بأبي فردني وقال لي دعها تعيش الحلم ولا تحرمها ، فان تدخلت لمنعها ستصاب بالجنون .
بعد سنوات توفي ابي وتزوجن اخواتي فبقيت انا معها في البيت ولم يتغير برنامجها بشيء الا اضافة خطاب جديد وحوار اخر مع ابي المتوفي تخبره بما اعدته لاولادها ، فحاولت جهادا ان اخفف من متابعاتي لها وسماع حوارها لكي لا اصاب بالجنون .
بعد ثلاث وعشرون عام من الغربة والانتظار والامل بلقاء ابناءها وتزويجهم سقط النظام البعثي ، وكانت فرحتها لا توصف فهي متحولة بين بكاء وضحك لانها ستحضن اولادها ويتحقق حلمها وتزوجهم بيدها مثلما خططت له ، تصرفاتها توحي لي الان بالجنون .
عدنا الى العراق وكان بيتنا قد باعته الحكومة وبيوت ارحامنا قد استولى عليها ازلام النظام البعثي .
استأجرنا بيتا وبدأنا البحث عن اخوتي وطرقنا كل الابواب وسألنا كل من يعرفهم ومن له معلومات عن مصير الشباب المحتجزين ، وكل منهم يتحدث بمعلومة ، فجمعنا كل المعلومات بعد اشهر وكانت نتيجتها ان النظام قد اعدمهم ، ومصير قبورهم مجهول .
وكانت هذه الاخبار تصل لامي وهي في حالة من الهستريا الغريبة حتى كأن روحها تخرج من جسدها في كل خبر تسمعه ، حتى تيقنت بقتل اولادها الثلاث وان لا قبور لهم .
فطلبت مني ان اصنع لها ثلاث قبور وهمية في حديقة البيت لتزورهم ، فعملت لها ماأرادت بجمع تراب على شكل قبر ، وكتبنا عليه اسم لكل واحد منهم .
كانت تخرج لهم عصرا وتضع الملابس المخصصه لهم وتخاطبهم وتدور عليهم تحضنهم واحدا بعد الاخر وكأنهم احياء
وكانت تقول لهم يمه شسويتوا يكتلوكم ، شنو ذنبكم
ليش اذوكم ، انطوكم اكل ، هسه انتوا وين ، انتوا ضاربيهم لو سابيهم .
الله يدمر عوائلهم مثل ما دمروكم ....
وكانت تكرر كلامها شنو ذنبكم ...
حمودي علاوي حسوني ردوا عليه حاجوني ، مو احجي وياكم
ليش عفتوني وحدي
ليش ما انتظرتوني اشوفكم ..
متدرون اني متحضره لزواجكم ..
الملابس المشتريته الكم عجبتكم ..
وبعدها تصيح يمه حمودي علاوي حسوني ...ثم تدخل البيت بعد ان انهكها البكاء والانين
واستمرت على ما يقرب العشرة ايام الى ان استبطأت دخولها البيت يوما فذهبت لها ، فوجدتها مستلقية على احد القبور الافتراضية ناديتها امي يمه بلا فائدة فحركتها ووجدتها جثة هامدة قد فارقت الحياة ، ووجدت بعينها الدمع وقد سالت منه قطرات فأبتل منه التراب .
بقيت وحديدا غريبا لا امتلك الا قبرها ازوره بين الفينة والاخرى .
هكذا تحولت حياتنا الى نثار من الذكريات وقصص ومواجع كبقية اهلنا المهجرين الى ايران من الكرد الفيلين وغيرهم ظلما وعدوانا ،
ولم انسى كلمة امي التي طالما رددتها في خطابها لاخوتي
شنو سويتوا ...نعم ماذا عملنا فالنسب والقومية ليست بأرادتنا ، فالله هو خلقنا هكذا ، وما ذنبنا اذا كان الطاغية من قومية اخرى ...
هكذا جرت ودارت الايام على الكثير من اهلي الاكراد الفيلية بين تهجير واعدام وسجون وخوف ...
وسار على نهج الظلم لهم اخرون من انصار الطاغية ومن المتعجرفون ...
اخترت طريقي للسير في بقية حياتكي غير آبه باحد يؤذيني ولا احمل حقد عليهم لانهم جهلة ، ولا اريد تكرار سلوك الطاغية ، لاحمل معي روح امي وابي واخوتي المفعمة بالمحبة والخير .
لعن الله البعثيين ومن والاهم وحمل فكرهم وحقدهم.
بالمناسبة القصه تخص أحد أصدقائنا المقربين..
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق